الخميس، 7 مايو 2015

الحدود السياسية بين شمال وجنوب السودان


شكل السودان معرضاً حياً لصنوف الأحداث والظواهر الإجتماعية والإقتصادية والسياسية منذ عهد قديم، مما جعله قبلة للباحثين والدارسين لإجراء دراساتهم في هذه التغيرات المميزة لهذا الوطن الشاسع المتنوع والمتعدد الثقافات ومدخلاتها، ولم يخل الأمر من خيرات وفيرة لم تحصي ولم تعد جعلت من السودان هدفاً لأطماع الطامعين .وإن تناولنا العهد القريب، فكان الحكم التركي ثم عقبه الإستعمار الإنجليزي وما خلفه من ويلات وتداعيات وإنقسامات داخل كل مجتمع وكيان قائم في السودان.
تمثلت مشكلة جنوب السودان أساساً من طابع الإختلافات الطبيعية في الكيان الإجتماعي والثقافي (الغابي) والبيئة التي شكلت موقعاً جغرافياً مميزاً، واستطاع الإستعمار أن يجعلها معضلة صعبة الحل وأدت إلي أكبر حدث سياسي في تاريخ السودان بعد الإستقلال وهو الإنفصال الكامل وقيام دولة جنوب السودان المستقلة سياسياً وسيادياً. ولم تتوقف الأطماع الخارجية الباحثة عن المصالح الخاصة عند هذا الإنفصال بل سعت لإمتداد الشقاق وبُعد الوحدة أو حتى التعاون فيما بين الدولتين، وحملت أجندتها الخاصة معاول الفرقة لتضرب في كل الإتجاهات، حتى كانت قضية ترسيم الحدود.             
تعريف الحدود السياسية
تعريف "الحدود السياسية" تعريف يتسم بشقين الأول يتناول كلمة الحدود والتي هي جمع "حد" وهي  لغوياً "الفصل بين الشيئين لئلا يختلط أحدهما بالآخر، أو لئلا يتعدى أحدهما على الآخر" ومنتهى كل شئ هو حده.   وفيما يخص الشق الثاني كلمة "السياسية" فالمعنى المعروف هي ساس ،يسوس وساس الرعية أي تولي رئاستهم وقيادتهم ، وهي تدبير أمور الدولة، وحاصل الجمع بين الشقين هو أن " الحدود السياسية هي الفاصل بين نطاقين من نطاقات ممارسة النفوذ والقوة، أو هي العلامات الدالة على نهاية إطار من تلك الأطر التي تمارس خلالها عملية التخصيص السلطوي للقيم أو القوة والنفوذ وبداية الآخر
لم يعرف السودان الحدود السياسية الدولية قبل عام 1899م، ولكن تجسدت صورة السودان الحالية في ظل التنافس الأوروبي الذي عمل على تقسيم القارة الإفريقية عقب ذلك التاريخ الذي وقعت فيه إتفاقية الحكم الثنائي الإنجليزي المصري، أما الحدود الإدارية بين شمال وجنوب السودان قد شهدت مجموعة إجراءات وتعديلات اقتضتها السياسة البريطانية نحو جنوب السودان منذ عام 1902م والتي هدفت في بادئ الأمر إلى فصلهم عن الشمال لضمهم في المستقبل لممتلكاتهم في شرق أفريقيا، ثم تراجعت عنها فيما بعد عام 1947م نتيجة لعدد من العوامل الداخلية والخارجية. ولم تكن هناك أية مخاوف لمختلف المجموعات السكانية جراء تلك التعديلات الادارية.  أقرت إتفاقية السلام الشامل في نيفاشا 2005م بحق تقرير المصير لسكان جنوب السودان حددت خط 1 يناير 1956م حداً فاصلاً بين دولتي الشمال والجنوب في حالة الإنفصال،
 ولكن ظل هذا الخط الإداري مثار جدل وتوتر بين مديريات التماس (التمازج) في الشمال والجنوب منذ مطلع السبعينات، والأمر قد يزداد سؤ في ظل تحول هذا الخط الإداري إلى خط سياسي دولي فاصل بين الدولتين بعد الإستفتاء. تكمن مشكلة الحدود في وصف وترسيم حدود يناير 1956م لاسيما في حالة انفصال جنوب السودان عن شماله، وقد بدأت بوادر تلك المشكلة في النزاع حول منطقة أبيي وصدر النزاع حول الحدود الإدارية تلك بحسبانه نزاعاً حول حدود دولية بين دولتين قد تشكل قريباً دولة في جنوب السودان في مقابلة الدولة الأم في شماله، وكان جوهر النزاع والصراع حول ملكية المنطقة المتنازع عليها ( منطقة أبيي) هل تابعة إلي شمال السودان أم جنوبه؟، والنزاع حول أبيي يجسد الصراع الاثني حول ملكية الأرض في السودان مثل (صراع الكبابيش والهواوير حول ملكية أرض كجمر في السنوات الأخيرة من الحكم الثنائي).
قضى قرار محكمة لاهاي بتقليص حدود المنطقة من (18,500كيلومتر) إلي (10 ألف كيلومتر) بحسب خريطة أصدرتها المحكمة، كما قضى قرار المحكمة بوصف الحدود الجديدة لمنطقة أبيي، وبناءاً عليه أصبحت الحدود الشمالية للمنطقة ( حدود الشمال والجنوب) عند خط عرض 10 درجات و 10 دقائق.أما بالنسبة للحدود الجنوبية فقد أشار قرار المحكمة إلى أن لجنة الخبراء لم تتجاوز صلاحيتها في الحدود التي جرى رسمها في يناير 1956م، وبالتالي فإن الحدود مثبتة. وفيما يختص بالحدود الشرقية التي تمتد على طول خط كردفان وأعالي النيل ( عند خط طول : 29 درجة و 32 دقيقة.. وتسير شمالاً إلى أن تصل خط عرض 10 درجات و 22 دقيقة.. )، فإن لجنة الخبراء قد تجاوزت صلاحيتها، وبالتالي فإن قرار المحكمة أن تبقى الحدود كما جرى تحديده في يناير 1956م. وفيما يختص بالحدود الغربية فإن لجنة الخبراء تخطت صلاحياتها أيضاً فيما يختص بحدود يناير 1956م، وبالتالي فإن قرار المحكمة اعتمد حدود 1905م فيما يختص بمنطقة مشيخات دينكا نقوك التسع المحالة إلى كردفان والتي تمتد علي خط طول 27 درجة و50 دقيقة شرقاً وخط عرض 10 درجات و10 دقائق شمالاً إلى حدود كردفان ودارفور على ما جرى تحديده في يناير 1956م.
     كذلك أشار قرار محكمة أبيي إلى أن قبيلتي دينكا نقوك والمسيرية سوف تحتفظان بحقوقهما التاريخية الراسخة في استخدام الأرض شمال هذه الحدود وجنوبيها. وأشارت المحكمة إلى ضرورة التفاهم بين سكان المنطقة حتى لا يتم تقويض الحياة الطبيعية التي كانت سائدة في المنطقة بسبب الترسيم الجديد للحدود، ويرى الخبراء أنه ورغم أن القرار تعامل مع الجوانب الفنية لترسيم الحدود وحفظ الحقوق التاريخية للمسيرية في الرعي، إلا أن الجوهر هو العمل القاعدي علي الأرض والتراضي بين سكان المنطقة. وبذلك أعاد قرار محكمة لاهاي حول النزاع حول النزاع الحدودي في أبيي ترسيم جزئي للحدود بين الشمال والجنوب التي تمتد من إفريقيا الوسطى غرباً حتى إثيوبياً شرقاً، أما المناطق الأخرى المتنازع حولها بين الشريكين والتي تتمثل في (كيفياكنجي) بمنطقة حفرة النحاس والتي تقع بين حدود ولايتي جنوب دارفور وبحر الغزال، ومنطقة (كاكا) التجارية التي تقع بين ولايتي جنوب كردفان وأعالي النيل، ومنطقتي (جودة والمقينص) التي بين ولايتي النيل الأبيض وأعالي النيل، هذه المناطق يتوقع أن يستمر حولها الصراع حولها، وقد يتجه بها الشريكان نحو محكمة التحكيم الدولي بلاهاي كسابقتها إذا عجزت إرادة الطرفين في تجاوز النزاع حولها، وإلاّ سوف تكون بؤر صراع وتوتر دائمة بين الشمال والجنوب في ظل الانفصال.
      تتميز حدود 1/1/1956م بكثرة التعاريج في الحدود الشمالية والشرقية والغربية لمديريات أعالي النيل وبحر الغزال بحدودها السابقة، وبالمقابل فإن الحدود الجنوبية والجنوبية الشرقية والجنوبية الغربية للمديريات الشمالية بحدودها السابقة تعتبر أكثر تعرجاً من بقية أطرافها الأخرى. كذلك فإن خط 1/1/1956م لا يمثل شكل رسوم هندسية وهو بتلك التعرجات لها معاني اجتماعية واقتصادية حيث فصلت بين القبائل والاثنيات الشمالية والجنوبية في السابق في إطار السياسة التي اتبعها المستعمر البريطاني لفصل الجنوب عن الشمال في ظل قانون المناطق المقفولة، لذلك تتبع خط ألأول من يناير 1956م الحدود الاثنية لإبقاء المجموعات السكانية الشمالية في المديريات الشمالية وإبقاء المجموعات السكانية الجنوبية في المديريات الجنوبية.
9. وجود الخط الحدودي بتلك الصورة المتعرجة له مغذى إداري مرتبط بحقائق جيولوجية للمناطق الفاصلة بين شمال وجنوب السودان، وذلك يعود لارتباط التكوين الجيولوجي باحتمالات وجود الماء الجوفي وهو أمر ذو أثر على حياة الناس ونوع وطبيعة اقتصادهم، وهذا بالتالي يعتبر عامل مؤثر في التنظيم الإداري الذي أراده المستعمر الإنجليزي، ولهذا الجانب يعتبر خط الأول من 1956م خط طبيعي في بعض أجزاءه، ولكن وفق أسس أخرى يعتبر حد صناعي لأنه لم يتوافق مع الظواهر الطبيعية في كثير من جوانبه، كما أنه حاول تقسيم الامتدادات الثقافية والحضارية لشمال السودان في جنوبه والعكس أيضاً صحيح، ولم يراعي حرمة الحقوق التاريخية الراسخة (الرعي والزراعة) لمواطني مناطق التماس على خط 1956م، وقد خلق خط 1956م المتعرج نتوءات لشمال السودان في جنوبه ولجنوب السودان في شماله قد يكون لها آثار سالبة على الأمن القومي للجانبين في حالة الانفصال كما كان لها الأثر الإيجابي في تدعيم عوامل الوحدة والاتصال في ظل السودان الموحد.
     حدثت حالات إنفصال كثيرة في العالم، بعضها كانت لها مشاكل في ترسيم حدود، أدت إلى نزاعات وتوترات بين الدولة الناشئة والدولة الأم، والقليل منها أسس لعلاقات سلسة بين الدول المتنازعة على الحدود، مثل النزاع الحدودي الإثيوبي الإريتري. فقد وقع النزاع الحدودي بين إثيوبيا وإريتريا بعد عام من إستقلال الثانية عن الأولى في 24 مايو 1993م حول ستة مناطق حدودية لا تتجاوز مساحتها (400) كلم2 وهي (زلامبيسا، بوري، بادمي، شيراز، برجا، الحميدة) وتفتقر جميعها إلى الأهمية الإستراتيجية، أو أي موارد أو ثروات طبيعية، وتطور النزاع وأدى إلى نشوب أشرس حرب في المنطقة في العصر الحديث بين إثيوبيا وإريتريا عام 1998م، إنتهت في يونيو 2000م بهزيمة إريتريا الدولة الوليدة المعتدية على الدولة الام (اثيوبيا) والمبادرة بالهجوم على القوات الأثيوبية بمنطقة بادمي في نزاعهما الحدودي، وانتهت الحرب في ذلك التاريخ باتفاقية سلام شامل برعاية الامم المتحدة، عرفت باتفاقية الجزائر والتي نصت على قوات أممية عازلة بين الدولتين في مناطق النزاع الحدودي لحفظ السلام في تلك المنطقة واللجوء الي التحكيم الدولي، وما فشلت أرتيريا في تحقيقة عن طريق الحرب حققته عن طريق التحكيم الدولي، فقد أصدرت مفوضية الحدود التابعة للامم المتحدة حكمها في النزاع الحدودي بين الدولتين في ابريل 2002م وهو حكم ملزم قبل به الطرفان، ولكن بعد فراغ لجنة الترسيم من اجراءاتها التحضيرية التي مضت بشكل بطيء
 بدأت تلوح في الأفق نذر حرب جديدة بين البلدين فتوقف عمل اللجنة بعد رفض اثيوبيا أجزاء من قرارات مفوضية ترسيم الحدود، وقد تسبب ذلك النزاع في توتر علاقات البلدين وأصبح كل طرف يتبع كافة السبل لانزال الهزيمة بالطرف الآخر بما في ذلك استضافة المعارضة لكل طرف ودعمها وتحريكها اتجاه اسقاط الطرف الاخر، أما المثال الثاني فهو النزاع الهندي الباكستاني حول كشمير، حيث تسبب النزاع الحدودي بين الهند وباكستان حول كشمير في ثلاثة حروب بين الدولتين منذ عام 1947م وتسبب النزاع الحدودي بين البلدين في سباق تكنولوجي وسباق التسلح النووي الذي جعل من منطقة آسيا الوسطى وآسيا الجنوبية الغربية منطقة حافلة بعدة قوى نووية من بينها روسيا والصين وإيران، هذا فضلاً عن الإتهامات المتبادلة بزعزعة أمن وإستقرار كل من الدولتين لبعضهما البعض، والمردودات السالبة في المجالات الأخرى.
12. بصورة عامة فإن خط الأول من يناير 1956م المتعرج سوف يدفع بصعوبات كثيرة مرتبطة بترسيم الحدود بين الشطرين الشمالي والجنوبي في السودان في حالة الانفصال لاسيما أن 20% من الحدود تعادل 400 كلم، وهي محل نزاع بين الشمال والجنوب منذ الأيام الأولى بعد الإستقلال وتشمل المناطق التي ذكرت من قبل في هذا التقرير، ويوصى بضرورة تدارك ذلك بتدابير مختلفة حتى لا يلقي الاختلاف على ترسيم الحدود بظلاله السالبة على علاقات البلدين إذا وقع الانفصال، ويمكن أن يتسبب الخلاف في حرب جديدة في المنطقة نسبة لطول الحدود وتعرجها والتداخل السكاني علي جانبيها والامتدادات الثقافية للجانبين تجاه الآخر، وأقل الاحتمالات سوف يؤدي عدم ترسيم الحدود إلى علاقات جوار سوف توصف بالمتوترة كما وصفت علاقات السودان في وضعه الراهن ببعض دول جواره بالمتوترة في أغلب الأوقات بسبب نزاعات الحدود، والأمثلة المرتبطة بترسيم الحدود كثيرة ولكن أبرز مثال في هذا الصدد، الحدود السودانية – الإثيوبية التي يبلغ طولها حوالي (1605) كيلومتراً وتعتبر أطول الحدود للسودان مع دول الجوار ولكن أخفق الجانبان في توضيح معالمها ورسم خطوطها على أرض الواقع نسبة لتباين وجهات النظر في هذا الجانب في كثير من أجزاءها.
13. أشار بروفيسور عبدالله الصادق رئيس لجنة ترسيم الحدود إلى أنّ 80% من الحدود تم الاتفاق حولها وأن 20% لم يتم الاتفاق حولها وهي نسبة كبيرة، ومن المعروف أن حدود أبيي لاتوجد فيها مشكلة من الناحية القانونية فالطرفان قبلا بتحكيم لاهاي قانوناً أو تحكيماً ولكن فعلياً لا يوجد قبول وقد قوبل الحكم برفض من قبل أهل المنطقة خاصةً المسيرية. ولذلك فإن مشكلة أبيي معقدة للغاية ذلك أن الحدود المحددة كانت لمصلحة دينكا نقوك بالدرجة الأولى لذلك كانت مرفوضة تماماً من قبل الذين عُرفوا بـ(السودانيون الآخرون) وهي تسمية غير دقيقة، صحيح أن هناك قبائل أخرى غير المسيرية ولكن نسبة المسيرية تفوق الـ90% من مجموع تلك القبائل لذلك كان لابد من ذكر اسمهم، لأن عدم ذكر اسمهم تحديداً أثار مشكلة. وقد أخطأت قيادة المؤتمر الوطني خطأً فادحاً بقبول تلك النقطة حيث تم السماح لمشيخات دينكا نقوك التسعة بالتصويت من غير أي شرط للإقامة في مقابل وضع شروط للسودانيين الآخرين، فتعقيد مشكلة أبيي لا يعود فقط إلى خلاف على حدود وإنما على وجود مجموعات سكانية في المنطقة، فالمسيرية يشكلون أكثرية ولذلك كان من المتوقع أن تعمل الحركة الشعبية على منعهم من حقهم في الاستفتاء.
هناك إجماع على أن مسألة الحدود تمثل إشكالية وستكون سبباً في تجدد القتال بين الشمال والجنوب، وإذا لم تحسم المسألة فإن دولة الجنوب في حالة الانفصال ستكون بلا حدود محددة كما إسرائيل. فحدود 1 يناير1956 من الناحية النظرية مقبولة لكنها من الناحية العملية هناك عقبات كثيرة تحديدها. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق